كانت تعيش في أعظم قصر في زمانها تحت يديها الكثير من الجواري والعبيد حياتها مرفهة... متنعمة... زوجها طغى وتجبر... وأراد أن يقدسه الناس.
فنصب نفسه إلها عليهم... وأصدر قرار الألوهية من قصره فقال " أنا ربكم الأعلى " إنه فرعون ...
فرعون الذي نسي أنه كان نطفة مذرة. هذا المتكبر... بكل ما يملكه من مال وجنود وعبيد... تحداه أقرب الناس إليه... تحدته زوجته " آسية بنت مزاحم "
وهي إحدى أربع نساء هن سيدات نساء العالمين آسية التي آمنت برب العالمين... جاءت إلى زوجها المتكبر عندما قتل الماشطة التي كانت تمشط ابنتها… الماشطة التي قالت له متحدية: ربي وربك الله نتيجة لذلك التحدي قذفها في النار هي وأولادها.
فلم ترض زوجته " آسية "... لأنها أختها في الله والأخوة في الله... تنعدم فيها الطبقية بين الحرة والعبدة وبين الرئيس والمرؤوس.
فأرادت أن تنتصر لأختها في الله فقالت لزوجها فرعون عندما أخبرها عن أمر الماشطة.
قالت له: " الويل لك ما أجرأك على الله "
فقال لها: " لعلك اعتراك الجنون الذي اعترى الماشطة؟ "
فقالت: ما بي من جنون ولكني آمنت بالله تعالى ورب العالمين.
وبعد ذلك... دعا فرعون أمها...
قال لها: " إن ابنتك قد أصابها ما أصاب الماشطة.
فأقسم لتذوقن الموت أو لتكفرن بإله موسى، فخلت بها أمها... وأرادتها أن توافق فرعون، ولكنها أبت وقالت: أما أن أكفر بالله فلا والله.
وهذا هو التحدي... تحدي الواقع بكل ما يملك من قوة وجبروت وعندما رأى فرعون تمسكها بدينها وإيمانها خرج على الملأ من قومه
فقال لهم: "ما تعلمون من آسية بنت مزاحم "؟...... فأثنى عليها القوم.....
فقال: إنها تعبد رباً غيري
فقالوا: " أقتلها "
أختي الفاضلة... أسمعت قول بطانة السوء...
لقد قالوا: اقتلها، وقبل ثوان كانوا قد أثنوا عليها بخير... سبحان الله من هذه البطانة الممتدة عبر التاريخ!! ومن ثم نادى فرعون زبانيته...
وأوتدوا لها أوتاداً وشدوا يديها ورجليها ووضعوها في الحر اللاهب... تحت أشعة الشمس المحرقة ووضعوا على ظهرها صخرة كبيرة لقد كانت متنعمة بالفرش الوثير وشتى أنواع الطعام... والمقام الكريم.
والآن تضرب بالأوتاد تحت أشعة الشمس وعلى ظهرها صخرة كبيرة.
أود يا أختي الفاضلة الآن أن تعقدي مقارنة بين الصورتين.
وليت فرعون وقف عند ذلك... إنما قال لزبانيته: " انظروا أعظم صخرة فألقوها.
فإن رجعت عن قولها فهي امرأتي، وأخذ يتلذذ بتعذيبها... وهذا شأن الطغاة في كل زمان.
وفي أثناء ذلك... نظرت إلى ما عند الله فقالت:
{ رَبِّ ابْنِ لِي عِندَكَ بَيْتاً فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِن فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ } [التحريم:11]
وكشف الله عن بصيرتها فأطلعها على مكانها في الجنة ففرحت وضحكت وكان فرعون حاضراًً هذا المشهد.
فقال: ألا تعجبون من جنونها؟ إنا نعذبها وهي تضحك فقبض الله روحها إلى الجنة رضي الله عنها... وألقيت الصخرة عليها.. فلم تجد ألماً لأنها ألقيت على جسد لا روح فيه.. أختي الفاضلة... إنها وقفه إيمانية... نجد مدى إشراقة نور الإيمان في قلب هذه المؤمنة.
امرأة وحيدة... ضعيفة جسدياً... آمنة مطمئنة في قصرها تتحدى واقعاً جاهلياً يرأسه زوجها. لقد كانت نظرتها نظرة متعدية... تعدت القصر... تعدت الفرش الوثيرة... تعدت الحياة الرغيدة... تعدت الجواري... العبيد... الخدم لذلك كانت تستحق أن يذكرها رب العالمين في كتابه المكنون. ويضعها مثالاً للذين آمنوا وذلك عندما قال تعالى:
{ وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً لِّلَّذِينَ آمَنُوا اِمْرَأَةَ فِرْعَوْنَ إِذْ قَالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِندَكَ بَيْتاً فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِن فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ } [التحريم: 11]
وقال العلماء عند تفسير هذه الآية الكريمة لقد اختارت آسية الجار قبل الدار، واستحقت أيضاً أن يضعها الرسول صلى الله عليه وسلم مع النساء اللاتي كملن، وذلك عندما قال: « كَمُلَ من الرجال كثير ولم يكَمُلَ من النساء إلا آسية امرأة فرعون ومريم بنت مران، وإن فضل عائشة على النساء كفضل الثريد على سائرالطعام ».
آسية المؤمنة هي السراج الثاني الذي أضيء في ظلمات قصر فرعون.. والآن من يضيء لنا سراجاً يشع منه نوراً حمل معه الصبر... الثبات... والدعوة إلى الله.
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « من أحب لقاء الله، أحب الله لقاءه، ومن كره لقاء الله كره الله لقاءه »